فن

فؤاد المهندس بطلاً سينمائياً.. ملاحظات في كوميديا لا تسقط بالتقادم

في ذكراه الـ100 يؤكد فؤاد المهندس أن الأسطورة تولد لتخلد، فرغم انقطاع الجسد عن حضوره في الحياة العامة فإن تاريخاً آخر حفظته السينما والراديو لم ينقطع.

future الفنان المصري فؤاد المهندس

في ذكراه المئوية يؤكد فؤاد زكي المهندس (1924-2006) أن الأسطورة تولد لتخلد، فرغم انقطاع الجسد عن حضوره في الحياة العامة منذ وفاة المهندس، فإن تاريخاً آخر حفظته صورة السينما وتسجيلات الراديو لم ينقطع، بأعمال كتب لها أن تحفظ بإعادة مشاهدتها جيلاً بعد آخر. حين مات المهندس عام 2006، خرج من دائرة التاريخ الضيقة التي تذكر الأشخاص بصفتهم بشراً لهم وعليهم، إلى عالم الميتاتاريخ الواسع، حيث يحفظ العامة ذكر البشر كأسطورة ذات رمزية أحادية مؤنسة وملهمة، في البطولة الملحمية كعلي الزيبق وأبو زيد الهلالي أو الطرافة كجحا، وفي الميتاتاريخ المعاصر أصبح فؤاد المهندس (عمو فؤاد) وصورته الحاضرة في التقاليد الرمضانية المعاصرة، سواء في الإعلانات التلفزيونية، أو في الفن الشعبي الذي يزين أعماله في حي «الخيامية» بصور عم فؤاد من الكارتون إلى الأقمشة.

تلك الأسطورة ما كان لها أن تتحقق إلا بماضٍ كد فيه الرجل حتى أثبت حضوره في الذهنية المصرية، فربما يكون فؤاد المهندس واحداً من القلائل الذين ضربوا سهماً وأصابوا في الوسائط الترفيهية المعاصرة جميعها، ففي الراديو حيث بداياته ترك وراءه «محمود-سيد أفندي» وفي السينما حيث سنوات الألق والمجد قدم «مسعود أبو السعد- عسقلاني- شنبو- مستر إكس- زلاطا»، وفي المسرح التلفزيوني شاباً قدم «حمدي» وفي سنوات الأبوة ترك «الدكتور رأفت»، وفي التلفزيون حيث المراحل المتأخرة رسخ فؤاد المهندس الاسم الذي سيتحول به إلى أيقونة ذات جلال وحنان أبوي «عمو فؤاد». كما تحفظ الأسطورة أيضاً للمهندس كونه ذا عين فنية ثاقبة استطاعت أن تكتشف وتتفطن مبكراً لموهبة عادل إمام، ذلك الاكتشاف الذي كان لمسار السينما التجارية والجادة على حد سواء في مصر من التأثير بحيث لا يمكن للمرء أن يتصور تاريخاً موازياً آخر يغيب عنه عادل إمام، كما فؤاد المهندس.

لقد كانت تلك الطاقة تغمر حياة المصريين على مدار 40 عاماً تقريباً، ولقد كانت تتحرك وفقاً لبوصلة عبقرية توجد للفنان بشكل فطري وربما ببعض الحظ أحياناً، فولد المهندس في أسرة كثيرة الاحتكاكات الثقافية، فأبوه زكي المهندس كان أستاذاً مجدداً في اللغة العربية وصديقاً شخصياً لطه حسين، وكان يشجع أبناءه دوماً على الثقافة، ما نتج عنه في النهاية أن يكون والداً لمذيعة من الرعيل الأول كصفية المهندس التي ستتزوج من الإذاعي محمد محمود شعبان مقدم الشخصية الشهيرة «بابا شارو» الذي سيكون بمثابة أب روحي لفؤاد المهندس حيث سيتفطن لموهبة المهندس مبكراً وسيقدمه إلى مثله الأعلى الذي كان مولعاً به نجيب الريحاني.

سمير صبري مع زكي المهندس وحديث حول رفيق العمر طه حسين ☝️

خيالات فؤاد المهندس ولا حدوده

تميزت سينما المهندس دائماً بخروجها عن المألوف في عصرها، فلقد كانت الفانتازيا تحضر في سياق الفيلم بكل سهولة ومن دون مقدمات، حتى وإن لم يكن الفيلم من نوعية فانتازيا، يمكن أن يحتوي على «سكتش» داخله لكي يمارس المهندس الكوميديا التي احترفها، نرى في فيلم «اقتلني من فضلك 1965» مفارقات عادل مع والد محبوبته «أمينة» مخترع مصل التحول، الذي حينما يدخل عليه المختبر للمرة الأولى يجد كلباً يبيض وله صوت دجاجة..

«عادل» كذلك في أحد أحلامه يحوله والد محبوبته إلى حمار أثناء أداء إحدى الأغاني في الفيلم محاولة منه للتخلص من شعوره كآدمي الذي يؤلمه. أدرك المهندس مبكراً أن كوميدياه يجب أن تقوم على أسس تختلف عن تلك الكوميديا التي سادت عصره حيث إنه لا يمتلك تلك المقومات التي ميزت نجوم عصره، فهو لا يملك ضحكة حسن فايق، ولا حول عبدالفتاح القصري، ولا فم إسماعيل ياسين كما صرح في أحد حواراته الصحفية من قبل، لذلك كان عليه أن يسلك طريقاً آخر، اعتمد فيه على الخيال وكوميديا المواقف والحركات الجسدية، أو ما سماه هو «لوناً» جديداً.

حفلت أيضاً أفلام المهندس بتجسيد لنمط المزدوج، أي شخصيتين يؤديهما المهندس واحد شرير يتسبب بالمتاعب التي يدفع ثمنها الآخر الطيب الساذج، وتكون هنا المفارقة الكوميدية. وقد تكررت تلك التيمة في أفلام فؤاد المهندس في أربعة أفلام على التوالي هم «أخطر رجل في العالم 1967/ المليونير المزيف 1968/ العتبة جزاز 1969/ عودة أخطر رجل في العالم 1972».

وقد يتحقق ذلك الازدواج عن طريق الانمساخ في الشخصية ذاتها كما يظهر في فيلم «أرض النفاق 1968». يميل الناقد الباحث في تاريخ فؤاد المهندس وليد الخشاب في كتابه «مهندس البهجة» أن يقرأ تلك الثيمة على أساس أنها تعبر عن رؤية لطبيعة الانمساخ في النظام الناصري الحاكم، الذي يستمد شرعيته في الحكم من مناهضة الاستعمار والتحرر منه في مقابل سلبه لحريات مواطنيه أنفسهم. ويقرأ الخشاب سينما فؤاد المهندس في إطار غير معتاد، حيث يرى أننا لا نتعامل مع الكوميديا بصفتها أعمالاً جادة وتعبر عن الوضع السياسي بشكل آخر مختلف، لذلك يقدم في تفسيراته لأفلام المهندس عديداً من وجهات النظر التي تحاول أن تسقط أحداث تلك الأفلام على مجرى الوقائع السياسية.

وإذا سلمنا بوجهة نظر الخشاب أو اختلفنا معها، فلا شك أن فكرة الازدواج في سينما المهندس وتكرارها في عديد من أفلامه تعد الميزة الرئيسية لتلك السينما إذ إنه لا يوجد ممثل قدم نمط التوأم أو المزدوج ذلك العدد من المرات، الذي أضحى العامود الرئيسي للضحك في سينما فؤاد المهندس، بخاصة شخصية «مستر إكس» التي دائماً تجسد الشر حينما يقدمه فؤاد المهندس، والتي لا يزال حضورها على الألسنة في الثقافة الشعبية حتى اليوم.

في سياق النمط السينمائي «البارودي» قام فؤاد المهندس بمحاكاة ساخرة لشخصية «باتمان» من خلال شخصية «فرافيرو» ويعد ذلك واحداً من بواكير تمصير شخصيات الكومكس الأمريكية، التي ستستخدم في أكثر من مرة في المحاكاة الساخرة في ما بعد في أفلام ومسلسلات الكوميديا وأبرزها «الرجل العناب». وفي إطار «البارودي» أعاد فؤاد المهندس تقديم الكلاسيكية الهوليوودية من بطولة مارلون براندو وإخراج إليا كازان «فيفا زاباتا 1952» من خلال فيلمه، الذي يعد الأخير في سنوات المجد السينمائي «فيفا زلاطا 1976». في ذلك الفيلم يقدم المهندس نمطاً جديداً على السينما المصرية من خلال إدخال نموذج الفيلم «الويسترن الأمريكي» الذي كان وسيظل غريباً على السينما المصرية نظراً للاختلاف الثقافي الصارخ الذي لا يسمح باقتباس تلك النوعية من الأفلام.

مشهد من فيلم «العتبة جزاز» ☝️

الاقتباس الكمي والكيفي في سينما المهندس

كما كان المهندس واحداً من أكثر المقتبسين في تاريخ السينما المصرية، وقد يكون الاقتباس في بعض الأحيان على هيئة أعمال كاملة أو شخصيات في فيلمه، وكان الاقتباس وما يحمله من شخصيات غريبة على المجتمع واحداً من أكثر مسببات الضحك في سينما المهندس، ففي فيلم «سفاح النساء 1970» يحضر الكابتن «سافو» ممثل الإنتربول الدولي أجل القبض على السفاح، لقد أصبحت  شخصية الكابتن سافو ولازمتها الشهيرة «إإإنه» التي ستتردد 52 مرة في الفيلم، واحدة من أشهر الإفيهات التي ستندرج في الثقافة اليومية.

المرات التي ذكر فيها إفيه «إإإنه» في فيلم «سفاح النساء» ☝️

كما في فيلم «مطاردة غرامية» 1968 الذي قدمه فؤاد المهندس بشراكة معهودة مع شويكار، تحافظ النسخة الممصرة على وجود شخصية الطبيب النفسي التي يقوم بتمثيلها عبد المنعم مدبولي والإيفيه الشهير «أنا طويل وأهبل، أنا مش قصير وأوزعة» رغم تغيير هيكل شخصيات الفيلم النسخة الأمريكية التي كتبها وودي آلن.

☝️ الطبيب النفسي من فيلم «مطاردة غرامية»

نلاحظ في إحصاء المؤرخ السينمائي محمود قاسم في كتابه «السرقات والاقتباس في السينما» أن فؤاد المهندس اشترك في أكثر من 11 فيلماً أكثرها من بطولته مقتبسة من أفلام أجنبية ونصفها تقريباً من إخراج نيازي مصطفى. لم يكن نجاح المهندس نتيجة لعرض يتكون من رجل واحد، ولكن أيضاً لتقاطع مسيرته السينمائية في تلك المرحلة مع ميل للتجريب والتجديد من المخرجين والكتاب الذين تعامل معهم، وأيضاً لاحتواء أفلامه على كوكبة من النجوم المضحكين من طراز رفيع، ولكن ذلك النجاح نسب للمهندس في النهاية لأنه لا بطل غيره كان قادراً على تقديم أدوار البطولة في تلك الأفلام.

الطبقة والمدينة في سينما المهندس

ما نلحظه على سينما المهندس في مرحلة الستينيات التي شهدت أوج نجوميته أن البطل دوماً ما كان من أبناء الطبقة الوسطى التي تسكن المدن، الطبقة التي كان يفخر النظام الناصري دوماً بأنه خالقها وموجدها من عدم مجتمع النصف في المائة. تلك الطبقة مثلها فؤاد المهندس بشكل واضح في أفلامه، وقبل السينما، لطالما كان معبراً عنه في برنامجه الإذاعي الشهير «ساعة لقلبك» الذي كان يقدم على نمط مسرح «الفودفيل».

كما يذهب الخشاب في كتابه، كان محمود في «ساعة لقلبك» ممثلاً لموظف الطبقة الوسطى ابن المدينة ومشاكله اليومية التي تختزل في نزاعه مع زوجته حول تفاهات الحياة الأسرية، لم يكن محمود يعاني مشكلة الذهاب إلى المصيف مثلاً، بل كان يعاني مشاكل طريفة أثناء قضائه المصيف وتلك العادة التي أصبحت واحدة من العادات التي وفرها النظام الناصري لمواطنيه وطبقته الصاعدة آنذاك، بعدما كان حكراً على الباشوات وأبنائهم كما يذكر الكاتب جلال أمين في كتابه «ماذا حدث للمصريين؟».

وانتقلت شخصية محمود تلك إلى سينما فؤاد المهندس بشكل مكرر وطريف، لقد لعب فؤاد المهندس دور الموظف وكاتب الأغاني والفنان التشكيلي والمحامي والمحاسب في أحد المخابز والصحفي، كما أن مسرح الأحداث في تلك الأفلام كان تفاعلاً بين أبناء الطبقة الوسطى وبعضها، الذين يسكنون البيوت الواسعة، ويغرقون في وفرة من النعم، فنجد في فيلم «القاهرة في الليل» 1963 الاسكتش الشهير بين صباح وفؤاد المهندس الذي أصبح علامة للأجواء الرمضانية «الرجل ده هيجنني». يرى الخشاب أن سينما المهندس تشهد حفاوة بتعزيز صورة الطبقة الوسطى عن نفسها في عهد الناصرية، فمن خلال التفاصيل البسيطة في أن نرى فؤاد المهندس في أحد أفلامه يحلق دقنه بمعجون حلاقة بدلاً من الصابون يمكننا أن نرى ما طرأ على تلك الطبقة بشكل متسارع من تحولات في سنوات قليلة.

- أغنية رمضان قال احمدوه ☝️ بين صباح وفؤاد المهندس التي أصبحت رمزاً للحفاوة بقدوم رمضان

كذلك تدور سينما المهندس أغلبها في المدينة، في القاهرة، وهي قاهرة أخرى موازية لقاهرة أفلام الحقبة ذاتها التي كانت قاهرة ذات هم سياسي ووطني واجتماعي وغيره من القضايا الجادة. بينما كانت قاهرة المهندس صاخبة وغنائية، فتقريباً تحتوي كل أفلام المهندس على اسكتشات غنائية وحياة في الأماكن العامة والمتنزهات، بل إن الغناء عامل محرك للحبكة في كثير من الأفلام، فسفاح النساء يتحول إلى طفل حينما يسمع أغنية «ماما زمانها جاية» وعبدالحفيظ عبد القوي المراجيحي يتحول لشخصية أخرى حينما يسمع أغنية «العتبة جزاز والسلم نايلو في نايلو». وراج نمط الجريمة الهزلية في الفضاء السينمائي القاهري لفؤاد المهندس الذي تبدو فيه الشخصيات بسيطة جداً وواضحة ألوانها بين البياض والسواد، لكي تشبع الحاجة إلى الفرجة، ففي هذا الوقت أيضاً كانت السينما التجارية وسيلة مهمة من أنماط الاستهلاك للطبقة الوسطى الصاعدة.

لذلك كيلت الاتهامات لفؤاد المهندس من اليسار لكونه ممثلاً لتيار التفاهة التي حاول أن يرسيها النظام الناصري إلهاء للشعب المصري عن همومه وقضاياه، لكن ذلك لم يكن صحيحاً بأي حال من الأحوال، فمن وجهة النظر الضيقة تلك، لن يخلق إلا نوعاً واحداً من السينما والغناء والمسرح والأدب وتصبح عملية الإبداع محددة ومشروطة. بل إن بعض أفلام فؤاد المهندس حملت نوعاً من أنواع النقد السياسي والاجتماعي الناعم، مثل فيلم «سفاح النساء» 1970.

يبدو حال الصحافة في الثلث الأول من الفيلم حيث يعاني الصحفي محسن مع رئيس تحريره عزوز، فمحسن يريد أن ينشر قصة لشكسبير، ومن جهل رئيس التحرير يسمع اسمه كـ«الشيخ زبير»، ويرفض رئيس التحرير القصة في مقابل نشر متواليات مذكرات المعلم حربي «إمبراطور الليل» الذي يغضبه «المثئفين» الذين يغضبون من نشر مذكراته في الجريدة، ورغم ذلك يكافئ المعلم حربي بـ500 جنيه كحقوق للنشر بل ويصبح شخصية عامة تمضي الأوتوجرافات. إن ذلك المشهد الساخر الذي يبدو فيه رئيس التحرير «عزوز» بمظهر مشابه لمظهر الصاغ «صلاح سالم» الذي كان أحد الضباط الأحرار وعين نقيباً للصحفيين فترة ما، يعبر بشكل جلي عن نقد لترهل الجهاز البيروقراطي للدولة إلى درجة استوجبت غياب الكفاءات، وعن مزاج مجتمعي أصبح يزدري الثقافة الجادة في سبيل صحافة الإثارة الصفراء أو ما نعرفها اليوم بصحافة الترند.

- فيلم «سفاح النساء» ☝️ أحد الأفلام التي لا يزال يتوالى عرضها ويتابعها المشاهدون بشغف

لم يركن فؤاد المهندس إلى تلك الصدف التي جعلته ابناً لأسرة فنية والفطرة التي جعلت منه ظريف وممثل بالفطرة، فعملاً بمقولة «الريحاني» مثله الأعلى له «يجب أن تكون لك شخصيتك المستقلة وأداؤك المختلف، كن رجلاً ولا تتبعني» استمر المهندس بشحذ موهبته دائماً من خلال الاحتكاك بالتجارب المختلفة والاطلاع على المجهول والجرأة في التجريب، واتضحت تلك السمات بشكل رئيسي في مسيرة المهندس في خلال سنوات البطولة السينمائية، القصيرة جداً، المكثفة جداً، فمنذ أن حصل على بطولته السينمائية الأولى عام 1964 من خلال فيلم «أنا وهو وهي» وحتى عام 1976، حيث كان فيلم «فيفا زلاطا»، مع سنوات تقارب الخمس في تلك الفترة انقطع فيها المهندس عن البطولة السينمائية، قدم الرجل 23 فيلماً من بطولته استطاع عدد منها أن يحافظ على عرضه حتى اليوم لعديد من الأسباب التي أفردنا الحديث لها، وأهمها بالطبع معاصرة الكوميديا في تلك الأفلام رغم تقادمها وأيضاً لما يحظى به الفيلم ذاته من سمات فنية فريدة وجريئة قدمها فؤاد المهندس.

# فؤاد المهندس # سينما # السينما المصرية # فن

بين الحزن والانتظار: فيروزية المشرق ومشرقية فيروز
فيلم «أبو زعبل 89»: عن مصر التي نعرفها
فيلم «The Apprentice»: الحقيقة وراء دونالد ترامب

فن